فإن الله -سبحانه وتعالى- قال في كتابه الكريم: ( وما
الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون)،
وقال -عز وجل-: (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة
الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا)، وقال رسولنا -صلى الله عليه وسلم- في
الحديث الذي رواه الترمذي: "الدنيا ملعونة وملعون ما فيها، إلا ذكر الله
وما والاه، وعالم ومتعلم". فهي دار من لا دار له وبها يجمع من لا عقل له.
فبينا أنا أُقلِّبُ وأقرأُ كتابَ (إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان) لابن قيم الجوزية -رحمه الله-، وجدت وصية رائعة للحسن البصري -رحمه الله- كان قد كتبها لأمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز -رحمه الله ورضي عنه- تستحق أن تُكتب بماء الذهب وأن تُتَّخذ سراجا في ظلمات الغفلة والجهل، ولا سيما في زمانا هذا الذي تكالب فيه الناس على شهواتهم وملذاتهم، ونسوا فيه أمر آخرتهم ومعادهم. والذي جعلني أنقل هذه الوصية الرائعة هي أنها من أحد أعلام وعلماء الأمة الراسخين في العلم والزهد إلى أحد أعلام وأمراء الأمة الراسخين في مراقبة الله والزهد، فيا لله من مُوصِي ويا لله من مُوصَى، فرحمهما الله رحمة واسعة، وجمعنا بهما وبنبينا محمد عليه الصلاة والسلام في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر. وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يهدينا إلى سواء الصرط، وأن يوفقنا في ما يحب ويرضى، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
قال ابن القيم: ذكر ابن أبي الدنيا أن الحسن البصري كتب إلى عمر بن عبد العزيز أما بعد : فإن الدنيا دار ظعن ليست بدار إقامة، إنما أُنزل إليها آدم عليه السلام عقوبة فاحذرها يا أمير المؤمنين فإن الزاد منها تركها والغنى فيها فقرها، لها في كل حين قتيل، تُذل من أعزها وتُفقِر من جمعها، هي كالسم يأكله من لا يعرفه وهو حتفه، فكن فيها كالمداوي جراحه يحتمي قليلا مخافة ما يكره طويلا ويصبر على شدة الدواء مخافة طول البلاء، فاحذر هذه الدار الغرَّارة الخدَّاعة الخيَّالة التي قد تزينت بخدعها وفتنت بغرورها وختلت بآمالها وتشوفت لخطابها، فأصبحت كالعروس المجلوة، فالعيون إليها ناظرة والقلوب عليها والهة والنفوس لها عاشقة وهي لأزواجها كلهم قاتلة، فعاشق لها قد ظفر منها بحاجته فاغتر وطغى ونسى المعاد فشغل بها لبه حتى زلت عنها قدمه فعظمت عليها ندامته وكثرت حسرته واجتمعت عليه سكرات الموت وألمه وحسرات الفَوت، وعاشق لم ينل منها بغيته فعاش بغصته وذهب بكمده ولم يدرك منها ما طلب ولم تسترح نفسه من التعب فخرج بغير زاد وقدم على غير مهاد فكن أسر ما تكون فيها أحذر ما تكون لها، فإن صاحب الدنيا كلما اطمأن منها إلى سرور أشخصته إلى مكروه وصل الرخاء منها بالبلاء وجعل البقاء فيها إلى فناء، سرورها مشوب بالحزن أمانيها كاذبة وآمالها باطلة وصفوها كدر وعيشها نكد، فلو كان ربنا لم يخبر عنها خبرا ولم يضرب لها مثلا لكانت قد أيقظت النائم ونبهت الغافل فكيف وقد جاء من الله فيها واعظ وعنها زاجر، فمالها عند الله قدر ولا وزن ولا نظر إليها منذ خلقها، ولقد عرضت على نبينا بمفاتيحها وخزائنها لا ينقصها عند الله جناح بعوضة فأبى أن يقبلها كره أن يحب ما أبغض خالقه أو يرفع ما وضع مليكه، فزواها عن الصالحين اختيارا وبسطها لأعدائه اغترارا، فيظن المغرور بها المقتدر عليها أنه أكرم بها ونسى ما صنع الله عز وجل برسوله حين شد الحجر على بطنه، وقال الحسن أيضا : إن قوما أكرموا الدنيا فصلبتهم على الخشب، فأهينوها فأهنأ ما تكون إذا أهنتموها وهذا باب واسع، وأهل الدنيا وعشاقها أعلم بما يقاسونه من العذاب وأنواع الألم في طلبها، ولما كانت هي أكبر همّ من لا يؤمن بالآخرة ولا يرجو لقاء ربه كان عذابه بها بحسب حرصه عليها وشدة اجتهاده في طلبها، وإذا أردت أن تعرف عذاب أهلها بها فتأمل حال عاشق فان في حب معشوقه وكلما رام قربا من معشوقه نأى عنه ولا يفي له ويهجره ويصل عدوه فهو مع معشوقه في أنكد عيش يختار الموت دونه، فمعشوقه قليل الوفاء كثير الجفاء كثير الشركاء سريع الاستحالة عظيم الخيانة كثير التلون لا يأمن عاشقه معه على نفسه ولا على ماله، مع أنه لا صبر له عنه ولا يجد عنه سبيلا إلى سلوى تريحه ولا وصال يدوم له، فلو لم يكن لهذا العاشق عذاب إلا هذا العاجل لكفى به، فكيف إذا حيل بينه وبين لذاته كلها وصار معذبا بنفس ما كان ملتذا به على قدر لذته به التي شغلته عن سعيه في طلب زاده ومصالح معاده.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
فبينا أنا أُقلِّبُ وأقرأُ كتابَ (إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان) لابن قيم الجوزية -رحمه الله-، وجدت وصية رائعة للحسن البصري -رحمه الله- كان قد كتبها لأمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز -رحمه الله ورضي عنه- تستحق أن تُكتب بماء الذهب وأن تُتَّخذ سراجا في ظلمات الغفلة والجهل، ولا سيما في زمانا هذا الذي تكالب فيه الناس على شهواتهم وملذاتهم، ونسوا فيه أمر آخرتهم ومعادهم. والذي جعلني أنقل هذه الوصية الرائعة هي أنها من أحد أعلام وعلماء الأمة الراسخين في العلم والزهد إلى أحد أعلام وأمراء الأمة الراسخين في مراقبة الله والزهد، فيا لله من مُوصِي ويا لله من مُوصَى، فرحمهما الله رحمة واسعة، وجمعنا بهما وبنبينا محمد عليه الصلاة والسلام في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر. وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يهدينا إلى سواء الصرط، وأن يوفقنا في ما يحب ويرضى، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
قال ابن القيم: ذكر ابن أبي الدنيا أن الحسن البصري كتب إلى عمر بن عبد العزيز أما بعد : فإن الدنيا دار ظعن ليست بدار إقامة، إنما أُنزل إليها آدم عليه السلام عقوبة فاحذرها يا أمير المؤمنين فإن الزاد منها تركها والغنى فيها فقرها، لها في كل حين قتيل، تُذل من أعزها وتُفقِر من جمعها، هي كالسم يأكله من لا يعرفه وهو حتفه، فكن فيها كالمداوي جراحه يحتمي قليلا مخافة ما يكره طويلا ويصبر على شدة الدواء مخافة طول البلاء، فاحذر هذه الدار الغرَّارة الخدَّاعة الخيَّالة التي قد تزينت بخدعها وفتنت بغرورها وختلت بآمالها وتشوفت لخطابها، فأصبحت كالعروس المجلوة، فالعيون إليها ناظرة والقلوب عليها والهة والنفوس لها عاشقة وهي لأزواجها كلهم قاتلة، فعاشق لها قد ظفر منها بحاجته فاغتر وطغى ونسى المعاد فشغل بها لبه حتى زلت عنها قدمه فعظمت عليها ندامته وكثرت حسرته واجتمعت عليه سكرات الموت وألمه وحسرات الفَوت، وعاشق لم ينل منها بغيته فعاش بغصته وذهب بكمده ولم يدرك منها ما طلب ولم تسترح نفسه من التعب فخرج بغير زاد وقدم على غير مهاد فكن أسر ما تكون فيها أحذر ما تكون لها، فإن صاحب الدنيا كلما اطمأن منها إلى سرور أشخصته إلى مكروه وصل الرخاء منها بالبلاء وجعل البقاء فيها إلى فناء، سرورها مشوب بالحزن أمانيها كاذبة وآمالها باطلة وصفوها كدر وعيشها نكد، فلو كان ربنا لم يخبر عنها خبرا ولم يضرب لها مثلا لكانت قد أيقظت النائم ونبهت الغافل فكيف وقد جاء من الله فيها واعظ وعنها زاجر، فمالها عند الله قدر ولا وزن ولا نظر إليها منذ خلقها، ولقد عرضت على نبينا بمفاتيحها وخزائنها لا ينقصها عند الله جناح بعوضة فأبى أن يقبلها كره أن يحب ما أبغض خالقه أو يرفع ما وضع مليكه، فزواها عن الصالحين اختيارا وبسطها لأعدائه اغترارا، فيظن المغرور بها المقتدر عليها أنه أكرم بها ونسى ما صنع الله عز وجل برسوله حين شد الحجر على بطنه، وقال الحسن أيضا : إن قوما أكرموا الدنيا فصلبتهم على الخشب، فأهينوها فأهنأ ما تكون إذا أهنتموها وهذا باب واسع، وأهل الدنيا وعشاقها أعلم بما يقاسونه من العذاب وأنواع الألم في طلبها، ولما كانت هي أكبر همّ من لا يؤمن بالآخرة ولا يرجو لقاء ربه كان عذابه بها بحسب حرصه عليها وشدة اجتهاده في طلبها، وإذا أردت أن تعرف عذاب أهلها بها فتأمل حال عاشق فان في حب معشوقه وكلما رام قربا من معشوقه نأى عنه ولا يفي له ويهجره ويصل عدوه فهو مع معشوقه في أنكد عيش يختار الموت دونه، فمعشوقه قليل الوفاء كثير الجفاء كثير الشركاء سريع الاستحالة عظيم الخيانة كثير التلون لا يأمن عاشقه معه على نفسه ولا على ماله، مع أنه لا صبر له عنه ولا يجد عنه سبيلا إلى سلوى تريحه ولا وصال يدوم له، فلو لم يكن لهذا العاشق عذاب إلا هذا العاجل لكفى به، فكيف إذا حيل بينه وبين لذاته كلها وصار معذبا بنفس ما كان ملتذا به على قدر لذته به التي شغلته عن سعيه في طلب زاده ومصالح معاده.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
No comments:
Post a Comment